معرفة

آداب التلاوة

إن القرآن الكريم هو كلام الرحمن، أنزله الله لهدايتنا، أنزله الله؛ لنتلوه آناء الليل وأطراف النهار، من قرأه أُجر، ومن استمع إليه كتب له أجرًا.

الخميس 04 ذو الحجة 1436 هـ , 17 سبتمبر 2015 إن القرآن الكريم هو كلام الرحمن، أنزله الله لهدايتنا، أنزله الله؛ لنتلوه آناء الليل وأطراف النهار، من قرأه أُجر، ومن استمع إليه كتب له أجرًا، روى الإمام الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» [1]. والقارئ لا يكون همّه إكمال ختمة أو إكمال السورة، وإنما عليه أن يتفهَّم معانيه، ويتأمل في ألفاظه حتى يحصل الانتفاع بتلاوته؛ إذ الغرض من التلاوة التدبر، قال ابن القيم رحمه الله: "وأما التأمل في القرآن، فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبّره وتعقّله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبّر، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة 2، الآية: 29] [2]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [سورة محمد، الآية: 24] [3]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [سورة المؤمنون، الآية: 68] [4]، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة الزخرف، الآية: 3] [5]، وقال الحسن: "نزل القرآن ليُتدبّر ويُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملًا". فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبّر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصّره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصحِّحاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه. وبالجملة تعرّفه الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه. وتعرّفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه" [6]. والناس في قراءة القرآن صنفان، إما قارئًا للقرآن، أو مستمعًا له، وفيما يلي نعرض لبعض الآداب التي تُشرع للتالي وللمستمِع للقرآن الكريم، وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله جملة من الآداب في كتابه (التبيان في آداب حملة القرآن) نقتبس شيئًا من تلك الآداب، ونبدأبآداب تلاوة القرآن الكريم: أولًا: الإخلاص: فإخْلاصُ النيّةِ لله تبارك وتعالى في التلاوة لابد منه؛ وذلك لأنَّ تِلاَوَةَ القرآنِ من العباداتِ الجَليلةِ، والإخلاص شرط أساسي من شروط قبول العبادة، قال الله تعالى: {فَادْعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر، الآية: 14] [7]، وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينِ} [سورة الزمر، الآية: 2] [8]، وقال تعالى: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [سورة البينة، الآية: 5] [9]، فالله تبارك وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا له سبحانه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في المتفق عليه: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...» [10]، وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيرى تركته وشركه» [11]. ثانيًا: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: من آداب تلاوة القرآن أن يستعيذ بالله القارئ من الشيطان الرجيم في بداية القراءة؛ وذلك لقول الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة النحل، الآية: 98] [12]. ثالثًا: أن يكون على طهارة: فمن تعظيم كلام الله تبارك وتعالى أن لا يقرأه الإنسان إلا وهو على طهارة، لكن لو كان مضطرًا للقراءة ولا يجد وسيلة للوصول للماء كأن يكون مسافرًا على سيارة أو راكبًا في طائرة، فهذا يكون معذورًا ويقرأ على حاله، هذا بالنسبة لمن هو محدث حدثًا أصغر، أما من كان محدثًا حدثًا أكبر، فهذا لا يقرأ القرآن بحال إلا بعد الطهارة. رابعًا: أن يحرص على قراءة القرآن في مكان نظيف وهادئ: من آداب تلاوة القرآن ألا يقرأ القرآنَ في الأماكِنِ المسْتَقْذَرة، أو في مكان لا يُنْصَتُ فيه لقراءتِه كالسوق ونحوه؛ لأن قراءَتَه في مثل ذلكَ إهانةٌ له، ولا يجوز أن يقرأ القرآن في الأماكن المستقذرة، وإنما يقرأ في مكان نظيف هادئ لائق بالقرآن الذي هو كلام الرحمن. خامسًا: حضور القلب: فمن آداب قراءة القرآن أن يقرأه بقلْبٍ حاضرٍ يتدبَّرُ ما يقْرَأ، ويتفهَّمُ معانِيَهُ، ويَخْشعُ عند ذلك قَلْبُه، ويَسْتحضر بأنَّ الله يخاطِبُه بهذه الآيات التي يتلوها، وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: "إن مَن كَان قبلكم رأوا القُرآن رسائلَ من ربِّهم؛ فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها بالنهار" [13]. وتقدم في بداية المقال كلامًا قيمًا للإمام ابن القيم رحمه الله حول تأمل القرآن وتدبره بما أغنى عن إعادته. سادسًا: تحسين الصوت عند القراءة: ومِن آدَابِ التلاوة أن يُحَسّنَ القارئ صوتَه بالقُرآنِ، في الصحيحين من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما أذِنَ الله لِشَيْء ما أذِنَ لنَبِيٍّ حَسنِ الصوتِ يَتغنَّى بالقرآنِ يَجْهرُ به» [14]، وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء: والتين والزيتون، فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه" [15]. سابعًا: ترتيل القرآن: من آداب تلاوة القرآن أن القارئ يقرأه مرتلًا؛ وذلك لأمر الله تبارك وتعالى بترتيله كما في قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا} [سورة المزمل، الآية: 4] [16]، فعليك أخي الكريم بقراءته بتمهل دون سرعة؛ لأن ذلك يعين على تدبر القرآن الكريم وتفهُّم معانيه، وإياك أن تهذَّه هذًّا كهذّ الشعر؛ لأن ذلك ينافي التدبّر والتفكّر والوقوف عند معانيه، ففي الصحيحين أن رجلًا من بني بَجِيلة يقال له: نَهيك بن سِنان جاء إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال: "إني أقرأ المفصل في ركعة"، فقال عبد الله: "هذًّا كهذِّ الشعر، لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن سورتين في ركعة" [17]. ثامنًا: السجود عند المرور بآية فيها سجدة: يُستحب للقارئ، وكذلك المستمع أن يسجد للتلاوة إذا مرّ بآية فيها سجدة، وهذا عامٌّ في الصلاة وغيرها، ‏ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:‎‎ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويله، -وفي رواية: يا ويلي-، أُمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأُمرت بالسجود فعصيته، فلي النار» [18]. فهذه بعض الآداب التي ينبغي لقارئ القرآن أن يلتزم بها؛ ليحصل على تمام الأجر، وينتفع بها قلبه، ويلين. ومن الآداب التي تُشرع للمستمع، أي: لمستمع القرآن ما يلي: أولًا: الإخلاص: الإخلاص ضروري في أي عبادة؛ لأنه شرط في قبول العبادة، وقد تقدم بيان ذلك والأدلة على ضرورته. ثانيًا: الإنصات: من الآداب اللازمة لمن استمع للقرآن أن ينصت ويحضر قلبه، ويتفكّر في معانيه وزواجره، وإن استطاع أن يبكي فليفعل، وإن لم يستطع فليتباكَ، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الأعراف، الآية: 204] [19]، وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ابن مسعود رضي الله عنه أن يقرأ عليه القرآن كما في الصحيح أنه قال: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ» قَالَ: قُلْتُ: "أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ" قَالَ: «إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، قَالَ: "فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا} [سورة النساء، الآية: 41][20]"، قَالَ لِي: «كُفَّ -أَوْ أَمْسِكْ-» فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ" [21]، وفي رواية مسلم: "رفعت رأسي، أو غمزني رجل إلى جنبي، فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل". فلا ينبغي لمن قُرأ عنده أن يكون منشغلًا بغير السماع، فلا يكون غافلًا ساهٍ لاهٍ، أو منشغلًا بالحديث مع غيره، بل عليه أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في سماعه لابن مسعود رضي الله عنه، وينصت لينال رحمة الله تعالى. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل القرآن وخاصّته، وأن يجعلنا من العاملين به، الواقفين عند حدوده، المقيمين لحروفه وحدوده، والحمد لله رب العالمين.